سورة المجادلة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}
روي أن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت رآها زوجها وهي تصلي، وكانت حسنة الجسم، وكان بالرجل لمم، فلما سلمت راودها، فأبت، فغضب، وكان به خفة فظاهر منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ، فلما خلا سني وكثر ولدي جعلني كأمه، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، ثم هاهنا روايتان: يروي أنه عليه السلام قال لها: «ما عندي في أمرك شيء» وروي أنه عليه السلام قال لها: «حرمت عليه» فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقاً، وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليَّ، فقال: «حرمت عليه» فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله، فبينما هي كذلك إذ تربد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى زوجها، وقال: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال: الشيطان فهل من رخصة؟ فقال: نعم، وقرأ عليه الأربع آيات، وقال له: «هل تستطيع العتق؟» فقال: لا والله، فقال: «هل تستطيع الصوم؟» فقال: لا والله لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري ولظننت أني أموت، فقال له: «هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟» فقال: لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة، فأعانه بخمسة عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً واعلم أن في هذا الخبر مباحث:
الأول: قال أبو سليمان الخطابي: ليس المراد من قوله في هذا الخبر: (وكان به لمم)، الخبل والجنون إذ لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء، بل معنى اللمم هنا: الإلمام بالنساء، وشدة الحرص، والتوقان إليهن.
البحث الثاني: أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية، لأنه في التحريم أوكد ما يمكن، وإن كان ذلك الحكم صار مقرراً بالشرع كانت الآية ناسخة له، وإلا لم يعد نسخاً، لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في عادة الجاهلية، لكن الذي روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «حرمت» أو قال: «ما أراك إلا قد حرمت» كالدلالة على أنه كان شرعاً.
وأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
البحث الثالث: أن هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهم، ولنرجع إلى التفسير، أماقوله: {قَدْ سَمِعَ الله} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {قَدْ} معناه التوقع، لأن رسول الله والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنها.
المسألة الثانية: كان حمزة يدغم الدال في السين من: {قَدْ سَمِعَ} وكذلك في نظائره، واعلم أن الله تعالى حكى عن هذه المرأة أمرين أولهما: المجادلة وهي قوله: {تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي تجادلك في شأن زوجها، وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها: حرمت عليه قالت: والله ما ذكر طلاقاً وثانيهما: شكواها إلى الله، وهو قولها: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وقولها: إن لي صبية صغاراً، ثم قال سبحانه: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} والمحاورة المراجعة في الكلام، من حار الشيء يحور حوراً، أي رجع يرجع رجوعاً، ومنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومنه فما أحار بكلمة، أي فما أجاب، ثم قال: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.


{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}
قوله تعالى: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ مَّا هُنَّ أمهاتهم} اعلم أن قوله: {الذين يظاهرون} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: ما يتعلق بالمباحث اللغوية والفقهية، فنقول في هذه الآية بحثان.
أحدهما: أن الظهار ما هو؟.
الثاني: أن المظاهر من هو؟ وقوله: {مِن نّسَائِهِمْ} فيه بحث: وهو أن المظاهر منها من هي؟.
أما البحث الأول: وهو أن الظهار ما هو؟ ففيه مقامان:
المقام الأول: في البحث عن هذه اللفظة بحسب اللغة وفيه قولان:
أحدهما: أنه عبارة عن قول الرجل لإمرأته: أنت علي كظهر أمي، فهو مشتق من الظهر.
والثاني: وهو صاحب النظم، أنه ليس مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي يعلوه، وكل من علا شيئاً فقد ظهره، ومنه سمي المركوب ظهراً، لأن راكبه يعلوه، وكذلك امرأة الرجل ظهره، لأنه يعلوها بملك البضع، وإن لم يكن من ناحية الظهر، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له، ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي أي طلقتها، وفي قولهم: أنت عليَّ كظهر أمي، حذف وإضمار، لأن تأويله: ظهرك علي، أي ملكي إياك، وعلوي عليك حرام، كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي.
المقام الثاني: في الألفاظ المستعملة بهذا المعنى في عرف الشريعة. الأصل في هذا الباب أن يقال: أنت علي كظهر أمي، فإما أن يكون لفظ الظهر، ولفظ الأم مذكورين وإما أن يكون لفظ الأم مذكوراً دون لفظ الظهر، وإما أن يكون لفظ الظهر مذكوراً دون لفظ الأم، وإما أن لا يكون واحد منهما مذكوراً، فهذه أقسام أربعة.
القسم الأول: إذا كانا مذكورين وهو معتبر بالاتفاق، ثم لا مناقشة في الصلات إذا انتظم الكلام، فلو قال: أنت علي كظهر أمي، أو أنت مني كظهر أمي، فهذه الصلات كلها جائزة ولو لم يستعمل صلة، وقال: أنت كظهر أمي، فقيل: إنه صريح، وقيل: يحتمل أن يريد إنها كظهر أمه في حق غيره، ولكن هذا الاحتمال كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان.
القسم الثاني: أن تكون الأم مذكورة، ولا يكون الظهر مذكوراً، وتفصيل مذهب الشافعي فيه أن الأعضاء قسمان، منها ما يكون التشبيه بها غير مشعر بالإكرام، ومنها ما يكون التشبيه بها مشعر بالإكرام، أما الأول: فهو كقوله: أنت علي كرجل أمي، أو كيد أمي، أو كبطن أمي، وللشافعي فيه قولان: الجديد أن الظهار يثبت، والقديم أنه لا يثبت، أما الأعضاء التي يكون التشبيه بها سبباً للإكرام، فهو كقوله: أنت علي كعين أمي، أو روح أمي، فإن أراد الظهار كان ظهاراً، وإن أراد الكرامة فليس بظهار، فإن لفظه محتمل لذلك، وإن أطلق ففيه تردد، هذا تفصيل مذهب الشافعي، وأما مذهب أبي حنيفة، فقال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: إذا شبه زوجته بعضو من الأم يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً، وهو قوله: أنت علي كيد أمي أو كرأسها، أما إذا شبهها بعضو من الأم يحرم عليه النظر إليه كان ظهاراً، كما إذا قال: أنت علي كبطن أمي أو فخذها، والأقرب عندي هو القول القديم للشافعي، وهو أنه لا يصح الظهار بشيء من هذه الألفاظ، والدليل عليه أن حل الزوجة كان ثابتاً، وبراءة الذمة عن وجوب الكفارة كانت ثابتة، والأصل في الثابت البقاء على ما كان ترك العمل به فيما إذا قال: أنت علي كظهر أمي لمعنى مفقود في سائر الصور، وذلك لأن اللفظ المعهود في الجاهلية هو قوله: أنت علي كظهر أمي، ولذلك سمي ظهاراً، فكان هذا اللفظ بسبب العرف مشعراً بالتحريم، ولم يوجد هذا المعنى في سائر الألفاظ، فوجب البقاء على حكم الأصل.
القسم الثالث: ما إذا كان الظهر مذكوراً ولم تكن الأم مذكورة، فهذا يدل على ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى: أن يجري التشبيه بالمحرمات من النسب والرضاع، وفيه قولان: القديم أنه لا يكون ظهاراً، والقول الجديد أنه يكون ظهاراً، وهو قول أبي حنيفة. المرتبة الثانية: تشبيهها بالمرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً مثل أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر فلانة، وكان طلقها والمختار عندي أن شيئاً من هذا لا يكون ظهاراً، ودليله ما ذكرناه في المسألة السالفة، وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال: {والذين يظاهرون} وظاهر هذه الآية يقتضي حصول الظهار بكل محرم فمن قصره على الأم فقد خص والجواب: أنه تعالى لما قال بعده: {مَّا هُنَّ أمهاتهم إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ} دل على أن المراد هو الظهار بذكر الأم، ولأن حرمة الأم أشد من حرمة سائر المحارم، فنقول: المقتضي لبقاء الحل قائم على ما بيناه، وهذا الفارق موجود، فوجب أن لا يجوز القياس.
القسم الرابع: ما إذا لم يذكر لا الظهر ولا الأم، كما لو قال: أنت علي كبطن أختي، وعلى قياس ما تقدم يجب أن لا يكون ذلك ظهاراً.
البحث الثاني: في المظاهر، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه الله: الضابط أن كل من صح طلاقه صح ظهاره، فعلى هذا ظهار الذمي عنده صحيح، وقال أبو حنيفة لا يصح، واحتج الشافعي بعموم قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} وأما القياس فمن وجهين:
الأول: أن تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك، بدليل صحة طلاقه، وإذا ثبت هذا وجب أن يصح هذا التصرف منه قياساً على سائر التصرفات الثاني: أن الكفارة إنما وجبت على المسلم زجراً له عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور، وهذا المعنى قائم في حق الذمي فوجب أن يصح، واحتجوا لقول أبي حنيفة بهذه الآية من وجهين:
الأول: احتج أبو بكر الرازي بقوله تعالى: {والذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} وذلك خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين الثاني: من لوازم الظهار الصحيح، وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق بدليل قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} إلى قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 3 4] وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع، لأنه لو وجب لوجب، إما مع الكفر وهو باطل بالإجماع، أو بعد الإيمان وهو باطل، لقوله عليه السلام: «الإسلام يجب ما قبله» والجواب: عن الأول من وجوه:
أحدها: أن قوله: {مِّنكُمْ} خطاب مشافهة فيتناول جميع الحاضرين، فلم قلتم: إنه مختص بالمؤمنين؟ سلمنا أنه مختص بالمؤمنين، فلم قلتم: إن تخصيصه بالمؤمنين في الذكر يدل على أن حال غيرهم بخلاف ذلك، لا سيما ومن مذهب هذا القائل: أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن حال ما عداه بخلافه، سلمنا بأنه يدل عليه، لكن دلالة المفهوم أضعف من دلالة المنطوق، فكان التمسك بعموم قوله: {والذين يظاهرون} أولى، سلمنا الاستواء في القوة، لكن مذهب أبي حنيفة أن العام إذا ورد بعد الخاص كان ناسخاً للخاص، والذي تمسكنا به وهو قوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] متأخر في الذكر عن قوله: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} والظاهر أنه كان متأخراً في النزول أيضاً لأن قوله: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} ليس فيه بيان حكم الظهار، وقوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} فيه بيان حكم الظهار، وكون المبين متأخراً في النزول عن المجمل أولى والجواب عن الثاني من وجوه:
الأول: أن لوازمه أيضاً أنه متى عجز عن الصوم اكتفى منه بالإطعام فهاهنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفى منه بالإطعام، وإن لم يتحقق العجز فقد زال السؤال، والثاني: أن الصوم يدل عن الإعتاق، والبدل أضعف من المبدل، ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره، فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع، مع صحة الظهار، ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار الثالث: قال القاضي حسين من أصحابنا إنه يقال: إن أردت الخلاص من التحريم، فأسلم وصم، أما قوله عليه والسلام: الإسلام يجب ما قبله قلنا: إنه عام، والتكليف بالتكفير خاص، والخاص مقدم على العام، وأيضاً فنحن لا نكلفه بالصوم بل نقول: إذا أردت إزالة التحريم فصم، وإلا فلا تصم.
المسألة الثانية: قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله: لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو أن تقول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي، وقال الأزواعي: هو يمين تكفرها، وهذا خطأ لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين، وهو الأصل فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريماً بالقول، والمرأة لا تملك ذلك بدليل أنها لا تملك الطلاق.
المسألة الثالثة: قال الشافعي وأبو حنيفة إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضي اليوم، وقال مالك وابن أبي ليلى، هو مظاهر أبداً لنا أن التحريم الحاصل بالظهار قابل للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير، وإذا كان قابلاً للتوقيت، فإذا وقته وجب أن يتقدر بحسب ذلك التوقيت قياساً على اليمين، فهذا ما يتعلق من المسائل بقوله تعالى: {الذين يظاهرون}، أما قوله تعالى: {مِن نّسَائِهِمْ} فيتعلق به أحكام المظاهر منه، واختلفوا في أنه هل يصح الظهار عن الأمة؟ فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يصح، وقال مالك والأوزاعي: يصح، حجة الشافعي أن الحل كان ثابتاً، والتكفير لم يكن واجباً، والأصل في الثابت البقاء، والآية لا تتناول هذه الصورة لأن قوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يتناول الحرائر دون الإماء، والدليل عليه قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] والمفهوم منه الحرائر ولولا ذلك لما صح عطف قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وقال تعالى: {وأمهات نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] فكان ذلك على الزوجات دون ملك اليمين.
المسألة الرابعة: فيما يتعلق بهذه الآية من القراءات، قال أبو علي: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر: {والذين يظاهرون} بغير الألف، وقرأ عاصم: {يظاهرون} بضم الياء وتخفيف الظاء والألف، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظاهرون بفتح الياء وبالألف مشددة الظاء، قال أبو علي: ظاهر من امرأته، ظهر مثل ضاعف وضعف، وتدخل التاء على كل واحد منهما فيصير تظاهر وتظهر، ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر، ثم تدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، فيصير يظاهر ويظهر، وتفتح الياء التي هي حرف المضارعة، لأنها للمطاوعة كما يفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع، دحرجته فتدحرج، وإنما فتح الياء في يظاهر ويظهر، لأنه المطاوع كما أن يتدحرج كذلك، ولأنه على وزنهما، وإن لم يكونا للإلحاق، وأما قراءة عاصم يظاهرون فهو مشتق من ظاهر يظاهر إذا أتى بمثل هذا التصرف.
المسألة الخامسة: لفظة: {مِنكُمْ} في قوله: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم، وقوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية المفضل: {أمهاتهم} بالرفع والباقون بالنصب على لفظ الخفض، وجه الرفع أنه لغة تميم، قال سيبويه: وهو أقيس الوجهين، وذلك أن النفي كالاستفهام فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه، فكذا ينبغي أن لا يغير النفي الكلام عما كان عليه، ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز والأخذ في التنزيل بلغتهم أولى، وعليها جاء قوله: {مَا هذا بَشَرًا} [يوسف: 31] ووجهه من القياس أن ما تشبه ليس في أمرين أحدهما: أن: (ما) تدخل على المبتدأ والخبر، كما أن (ليس) تدخل عليهما والثاني: أن (ما) تنفي ما في الحال، كما أن (ليس) تنفي ما في الحال، وإذا حصلت المشابهة من وجهين وجب حصول المساواة في سائر الأحكام، إلا ما خص بالدليل قياساً على باب مالا ينصرف.
المسألة الثانية: في الآية إشكال: وهو أن من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فهو شبه الزوجة بالأم، ولم يقل: إنها أم، فكيف يليق أن يقال على سبيل الإبطال لقوله: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} وكيف يليق أن يقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً} والجواب: أما الكذب إنما لزم لأن قوله: أنت علي كظهر أمي، إما أن يجعله إخباراً أو إنشاء وعلى التقدير الأول أنه كذب، لأن الزوجة محللة والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب، وإن جعلناه إنشاء كان ذلك أيضاً كذباً، لأن كونه إنشاء معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه، كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم يكون كذباً وزوراً، وقال بعضهم: إنه تعالى إنما وصفه بكونه: {مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً} لأن الأم محرمة تحريماً مؤبداً، والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً، فلا جرم كان ذلك منكراً من القول وزوراً، وهذا الوجه ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما من كل الوجوه، فلا يلزم من تشبيه الزوجة بالأم في الحرمة تشبيهها بها في كون الحرمة مؤبدة، لأن مسمى الحرمة أعم من الحرمة المؤبدة والمؤقتة.
قوله تعالى: {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً} أما الكلام في تفسير لفظة اللائي، فقد تقدم في سورة الأحزاب عند قوله: {وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون} [الأحزاب: 4] ثم في الآية سؤالان: وهو أن ظاهرها يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة، وهذا مشكل، لأنه قال في آية آخرى: {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وفي آية أخرى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] ولا يمكن أن يدفع هذا السؤال بأن المعنى من كون المرضعة أماً، وزوجة الرسول أماً، حرمة النكاح، وذلك لأنا نقول: إن بهذا الطريق ظهر أنه لا يلزم من عدم الأمومة الحقيقية عدم الحرمة، فإذاً لا يلزم من عدم كون الزوجة أماً عدم الحرمة، وظاهر الآية يوهم أنه تعالى استدل بعدم الأمومة على عدم الحرمة، وحينئذ يتوجه السؤال والجواب: أنه ليس المراد من ظاهر الآية ما ذكره السائل بل تقدير الآية كأنه قيل: الزوجة ليست بأم، حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة، ولم يرد الشرع بجعل هذا اللفظ سبباً لوقوع الحرمة حتى تحصل الحرمة، فإذاً لا تحصل الحرمة هناك ألبتة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إما من غير التوبة لمن شاء كما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} أو بعد التوبة.


{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)}
قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} قال الزجاج: {الذين} رفع بالابتداء وخبره فعليهم تحرير رقبة، ولم يذكر عليهم لأن في الكلام دليلاً عليه، وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} فاعلم أنه كثر اختلاف الناس في تفسير هذه الكلمة، ولا بد أولاً من بيان أقوال أهل العربية في هذه الكلمة، وثانياً من بيان أقوال أهل الشريعة، وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: لا فرق في اللغة بين أن يقال: يعودون لما قالوا، وإلى ما قالوا وفيما قالوا، أبو علي الفارسي: كلمة إلى واللام يتعاقبان، كقوله: {الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] وقال: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23] وقال تعالى: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ} [هود: 36] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5].
المسألة الثانية: لفظ {مَا قَالُواْ} في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه لفظ الظهار، والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ والثاني: أن يكون المراد بقوله: {لِمَا قَالُواْ} المقول فيه، وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه، ونظيره قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أي ونرثه المقول، وقال عليه السلام: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» وإنما هو عائد في الموهوب، ويقول الرجل: اللهم أنت رجاؤنا، أي مرجونا، وقال تعالى: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99] أي الموقن به، وعلى هذا معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي يعودون إلى الشيء الذي قالوا فيه ذلك القول، ثم إذا فسرنا هذا اللفظ بالوجه الأول فنقول: قال أهل اللغة، يجوز أن يقال: عاد لما فعل، أي فعله مرة أخرى، ويجوز أن يقال: عاد لما فعل، أي نقض ما فعل، وهذا كلام معقول، لأن من فعل شيئاً ثم أراد أن يقال مثله، فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضاً، وأيضاً من فعل شيئاً ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه، لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعود إليه.
المسألة الثالثة: ظهر مما قدمنا أن قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة، ويحتمل أن يكون المراد منه، ثم يعودون إلى تكوين مثله مرة أخرى، أما الاحتمال الأول فهو الذي ذهب إليه أكثر المجتهدين واختلفوا فيه على وجوه:
الأول: وهو قول الشافعي أن معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه، وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع منه من إيقاع التحريم، ولا كفارة عليه، فإذا سكت عن الطلاق، فذاك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم، فحينئذ تجب عليه الكفارة، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد هذا القول من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} وثم تقتضي التراخي، وعلى هذا القول يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ، وذلك خلاف مقتضى الآية الثاني: أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها، فتشبيه الزوجة بالأم لا يقتضي حرمة إمساك الزوجة، فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لقوله: أنت علي كظهر أمي، فوجب أن لا يفسر العود بهذا الإمساك والجواب عن الأول: أن هذا أيضاً وارد على قول أبي حنيفة فإنه جعل تفسير العود استباحة الوطء، فوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي، مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك، فثبت أن هذا الإشكال وارد عليه أيضاً، ثم نقول: إنه ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه، لا يحكم عليه بكونه عائداً، فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بذلك القدر من الزمان، وذلك يكفي في العمل بمقتضى كلمة: ثم والجواب عن الثاني: أن الأم يحرم إمساكها على سبيل الزوجية ويحرم الاستمتاع بها، فقوله: أنت علي كظهر أمي، ليس فيه بيان أن التشبيه وقع في إمساكها على سبيل الزوجية، أو في الاستمتاع بها، فوجب حمله على الكل، فقوله: أنت علي كظهر أمي، يقتضي تشبيهها بالأم في حرمة إمساكها على سبيل الزوجية، فإذا لم يطلقها فقد أمسكها على سبيل الزوجية، فكان هذا الإمساك مناقضاً لمقتضى قوله: أنت علي كظهر أمي، فوجب الحكم عليه بكونه عائداً، وهذا كلام ملخص في تقرير مذهب الشافعي الوجه الثاني: في تفسير العود، وهو قول أبي حنيفة: أنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة، قالوا: وذلك لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء، ثم قصد استباحة هذه الأشياء كان ذلك مناقضاً لقوله: أنت علي كظهر أمي، واعلم أن هذا الكلام ضعيف، لأنه لما شبهها بالأم، لم يبين أنه في أي الأشياء شبهها بها، فليس صرف هذا التشبيه إلى حرمة الاستمتاع، وحرمة النظر أولى من صرفه إلى حرمة إمساكها على سبيل الزوجية، فوجب أن يحمل هذا التشبيه على الكل، وإذا كان كذلك، فإذا أمسكها على سبيل الزوجية لحظة، فقد نقض حكم قوله: أنت علي كظهر أمي، فوجب أن يتحقق العود الوجه الثالث: في تفسير العود وهو قول مالك: أن العود إليها عبارة عن العزم على جماعها وهذا ضعيف، لأن القصة إلى جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة القصد إلى استحلال جماعها، وحينئذ نرجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله الوجه الرابع: في تفسير العود وهو قول طاوس والحسن البصري: أن العود إليها عبارة عن جماعها، وهذا خطأ لأن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} بفاء التعقيب في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يقتضي كون التكفير بعد العود، ويقتضي قوله: {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أن يكون التكفير قبل الجماع، وإذا ثبت أنه لابد وأن يكون التكفير بعد العود، وقبل الجماع، جب أن يكون العود غير الجماع، واعلم أن أصحابنا قالوا: العود المذكور هاهنا، هب أنه صالح للجماع، أو للعزم على الجماع، أو لاستباحة الجماع، إلا أن الذي قاله الشافعي رحمه الله، هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود، وأما الباقي فزيادة لا دليل عليها ألبتة.
الاحتمال الثاني: في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ} أي يفعلون مثل ما فعلوه، وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضاً وجوه:
الأول: قال الثوري: العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام، وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، فقال: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} يريد في الجاهلية: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي في الإسلام والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية، فكفارته كذا وكذا، قال أصحابنا هذا القول ضعيف لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة: ثم وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئاً غير الظهار، فإن قالوا: المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام، والعرب تضمر لفظ كان، كما في قوله: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] أي ما كانت تتلو الشياطين، قلنا: الإضمار خلاف الأصل القول الثاني: قال أبو العالية: إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد، فإن لم يكن يكرر لم يكن عوداً، وهذا قول أهل الظاهر، واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يدل على إعادة ما فعلوه، وهذا لا يكون إلا بالتكرير، وهذا أيضاً ضعيف من وجهين:
الأول: أنه لو كان المراد هذا لكان يقول، ثم يعيدون ما قالوا الثاني: حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله الكفارة، وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال: كنت لا أصبر عن الجماع فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعتها فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك وقلت: أمض في حكم الله، فقال: أعتق رقبة فأوجب الرسول عليه السلام عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار القول الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: معنى العود، هو أن يحلف على ما قال أولاً من لفظ الظهار، فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على مالو قال في بعض الأطعمة، إنه حرام عليَّ كلحم الآدمي، فإنه لا تلزمه الكفارة، فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين، وهذا أيضاً ضعيف لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك.
أما قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا فيما يحرمه الظهار، فللشافعي قولان:
أحدهما: أنه يحرم الجماع فقط القول الثاني: وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ودليله وجوه:
الأول: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فكان ذلك عاماً في جميع ضروب المسيس، من لمس بيد أو غيرها والثاني: قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم، فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه، فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك الثالث: روى عكرمة: أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: «اعتزلها حتى تكفر».
المسألة الثانية: اختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد، وأراد بالتكرار التأكيد، فإنه يكون عليه كفارة واحدة، وقال مالك: من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة، دليلنا أن قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة، فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة، والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى، أو لكفارة ثانية والأول باطل لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول وتكوين الكائن محال، ولأن تأخر العلة عن الحكم محال، فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة ثانية، واحتج مالك بأن قوله: {والذين يظاهرون} يتناول من ظاهر مرة واحدة، ومن ظاهر مراراً كثيرة، ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة، فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار، سواء كان مرة واحدة أو مراراً كثيرة والجواب: أنه تعالى قال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين} [المائدة: 89] فهذا يقتضي أن لا يجب في الإيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة، ولما كان باطلاً، فكذا ما قلتموه.
المسألة الثالثة: رجل تحته أربعة نسوة فظاهر منهن بكلمة واحدة وقال: أنتن علي كظهر أمي، للشافعي قولان: أظهرهما أنه يلزمه أربع كفارات، نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر منهن، ودليله ما ذكرنا، أنه ظاهر عن هذه، فلزمه كفارة بسبب هذا الظهار، وظاهر أيضاً عن تلك، فالظهار الثاني لابد وأن يوجب كفارة أخرى.
المسألة الرابعة: الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسة، فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحاق رحمهم الله، وقال بعضهم: إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان، وهو قول عبدالرحمن بن مهدي دليلنا أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود، فهاهنا فاتت صفة القبلية، فيبقى أصل وجوب الكفارة، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى.
المسألة الخامسة: الأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ويجبره على التكفير، وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع، قال الفقهاء: ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها، لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها.
المسألة السادسة: قال أبو حنيفة رحمه الله هذه الرقبة تجزئ سواء كانت مؤمنة أو كافرة، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب، وقال الشافعي: لابد وأن تكون مؤمنة ودليله وجهان الأول: أن المشرك نجس، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وكل نجس خبيث بإجماع الأمة وقال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] الثاني: أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فكذا هاهنا، والجامع أن الإعتاق إنعام، فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله، وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله، فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلاً لهذه المصلحة.
المسألة السابعة: إعتاق المكاتب لا يجزئ عند الشافعي رحمه الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة، وإذا أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً، فظاهر الرواية أنه لا يجزئ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجزئ، حجة أبي حنيفة أن المكاتب رقبة لقوله تعالى: {وَفِي الرقاب} [البقرة: 117] والرقبة مجزئة لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، حجة الشافعي أن المقتضى لبقاء التكاليف بإعتاق الرقبة قائم، بعد إعتاق المكاتب، وما لأجله ترك العمل به في محل الرقاب غير موجود هاهنا، فوجب أن يبقى على الأصل، بيان المقتضي أن الأصل في الثابت البقاء على ما كان، بيان الفارق أن المكاتب كالزائل عن ملك المولى وإن لم يزل عن ملكه، لكنه يمكن نقصان في رقه، بدليل أنه صار أحق بمكاسبه، ويمتنع على المولى التصرفات فيه، ولو أتلفه المولى يضمن قيمته، ولو وطئ مكاتبته يغرم المهر، ومن المعلوم أن إزالة الملك الخالص عن شوائب الضعف أشق على المالك من إزالة الملك الضعيف، ولا يلزم من خروج الرجل عن العهدة بإعتاق العبد القن خروجه عن العهدة بإعتاق المكاتب، والوجه الثاني: أجمعنا على أنه لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزئ عن الكفارة، فكذا إذا أعتقه المورث والجامع كون الملك ضعيفاً.
المسألة الثامنة: لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه، لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي، وعند أبي حنيفة يقع، حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية، وحجة الشافعي ما تقدم.
المسألة التاسعة: قال أبو حنيفة: الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام، وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير، حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام، وحقيقة الإطعام هو التمكين، بدليل قول تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك، فكذا هاهنا، وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر.
المسألة العاشرة: قال الشافعي: لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه حنطة أو شعيراً أو أرزاً أو تمراً أو أقطاً، وذلك بمد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتبر مد حدث بعده، وقال أبو حنيفة: يعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولا يجزئه دون ذلك، حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام، ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية، فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي، فلابد من حمله على أقل مالا بد منه ظاهراً، وذلك هو المد، حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت: لكل مسكين نصف صاع من بر وعن علي وعائشة قالا: لكل مسكين مدان من بر، ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين، فيكون نظير صدقة الفطر، ولا يتأدى ذلك بالمد، بل بما قلنا، فكذلك هنا.
المسألة الحادية عشرة: لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزئ عند الشافعي، وعند أبي حنيفة يجزئ، حجة الشافعي ظاهر الآية، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكيناً، فوجب رعاية ظاهر الآية، وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل، وللشافعي أن يقول: التحكمات غالبة على هذه التقديرات، فوجب الامتناع فيها من القياس، وأيضاً فلعل إدخال السرور في قلب ستين إنساناً، أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد.
المسألة الثانية عشرة: قال أصحاب الشافعي: إنه تعالى قال في الرقبة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} وقال في الصوم: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً} فذكر في الأول: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} وفي الثاني: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} فقالوا: من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال أما من كان مريضاً في الحال، فإنه ينتقل إلى الإطعام وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله، قالوا: والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} وهو بسبب المرض الناجز، والعجز العاجل غير مستطيع، وقال في الرقبة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة، ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال، وأيضاً يمكن أن يقال في الفرق إحضار المال يتعلق باختياره وأما إزالة المرض فليس باختياره.
المسألة الثالثة عشرة: قال بعض أصحابنا: الشبق المفرط والغلمة الهائجة، عذر في الانتقال إلى الإطعام، والدليل عليه أنه عليه السلام لما أمر الأعرابي بالصوم قال له: وهل أتيت إلا من قبل الصوم فقال عليه السلام أطعم دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام، وأيضاً الاستطاعة فوق الوسع، والوسع فوق الطاقة، فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة، ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق، فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية، والله أعلم.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قال الزجاج: {ذلكم} للتغليظ في الكفارة {تُوعَظُونَ بِهِ} أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه، وقال غيره {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تؤمرون به من الكفارة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التكفير وتركه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7